الاقتطاع من أجور الموظفين بمناسبة اضرابهم عن العمل دفاعا عن مطالبهم المشروعة.ماله وماعليه (الجزء الثاني)
من اعداد الأستاذ : الحسين البقالي
من الأمور التي يقع فيها التطفيف ،وويل للمطففين اعتبار الإضراب في كل القطاعات العمومية والخاصة حقا مشروعا يضمنه القانون مقابل رفض الاقتطاع عنه مع أن الوظائف والمهام والأعمال في كل القطاعات تقابلها أجور ، ولا يستقيم منطقا ولا عقلا ولا عرفا ولا عادة أن تدفع أجور دون وجود ما يقابلها من أعمال ومهام ووظائف . صحيح أن الدافع وراء كل إضراب يكون عادة بسبب الخلاف بين المشغل مهما كان أفرادا أو مؤسسات وبين المشتغلين حول الأجور أو حول ظروف العمل المختلفة. وهذا الخلاف لا يسوغ شرعا ولا قانونا الاخلال بالعقد المبرم بين الطرفين مشغل ومشتغل، ذلك أن فمدار هذا العقد هو قيام المشتغل بعمل ودفع المشغل ما يقابله من أجر. فإذا أخل المشتغل بالتزامه ،فإن ذلك يعني براءة ذمة المشغل من التزامه أيضا . ولهذا لا يمكن القبول بمنطق الاستفادة من حق الإضراب مع الاحتفاظ بالأجر . وأكثر من ذلك يعتبر الإضراب تضحية بالأجر من أجل الحصول على الحقوق المنشودة، بل تعتبر الاقتطاعات عند الذين يدركون حقيقة ثقافة الإضراب أوسمة يحق لهم أن يفخروا بها خصوصا عندما تنجح إضراباتهم ، وتحقق أهدافها ، وينتزعون حقوقهم مقابل تضحية بالأجور.وإذا كان المشغل يمارس الظلم على المشتغل ، فلا يليق بالمشتغل أن ينجر نحو الظلم أيضا وهو المظلوم من خلال المطالبة بأجر على الإضراب.
وليست المرة الأولى التي يطرح فيها موضوع الاقتطاع من أجور الموظفين بمناسبة اضرابهم عن العمل دفاعا عن مطالبهم المشروعة. فقد سبق لحكومات سابقة التهديد به لكن لم تجرؤ أحدها على تطبيق هذا القرار مقتنعة بعدم توفر الأساس القانوني السليم لمثل هذا الإجراء مفضلة سبل الحواروالتفاوض تارة ومعبرة عن عدم قدرتها أو رغبتها في تلبية المطالب موضوع الإضراب .
لكن هذه المرة يطرح الموضوع في ظل الحكومة الجديدة حكومة العدالة والتنمية بنكهة خاصة وفي ظرفية متميزة.
فالنكهة الخاصة تتمثل في كون المثير والمتحمس لهذا القرار هو وزير العدل والحريات وتشاء الظروف – وأية ظروف – أن يضاف اختصاص جديد لهذه الوزارة أن أصبحت وزارة الحريات.
فهل هذه صدفة " مكيدة " أن يصبح وزير العدل والحريات محاميا للحكومة في نصحها وتحفيزها لا تخاد قرار الاقتطاع من الموظفين المضربين.
فيما أعلم أن وزير العدل والحريات يحسب على رجال القانون, ومن هذا المنطلق سأحاول أن أناقش معه في هدوء العقلاء مدى مشروعية هذا القرار بعيدا عن لغة الانفعال والأيمان " من اليمين".
لقد برر السيد الوزير قراره هذا والذي عززه باليمين الغليظة ! على وجود مراسيم واجتهاد قضائي فضلا عن أنه تطبيق سليم لمبدأ لا أجر بدون عمل. وأعطى أمثلة على ذلك بكون الدول الديموقراطية تطبق مثل هذا القرار.
سنناقش إذن هذه المبررات ونفترض عدم وجود خلفيات أخرى سياسية أو نقابية أو نفسية.
أولا: ما هي المراسيم التي تبيح الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين ?
طبعا السيد الوزير لم يشر ولو إلى أحدها لذلك سنفترض أنه قصد بذلك مرسوم 5 فبراير 1958 المتعلق بالحق النقابي للموظفين إذ ينص في فصله الخامس على أن ( لكل توقف عن العمل بصفة مدبرة عن عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عنه علاوة على الضمانات التأديبية ويعم هذا جميع الموظفين).
فكيف يمكن القول بضمان ممارسة الحق النقابي للموظفين وتحريم الإضراب عليهم مع أن الإضراب هو من أهم مظاهر ممارسة هذا الحق كما تؤكد على ذلك منظمة العمل الدولية من خلال التوصيات والمطالب المباشرة العديدة لللجن المتخصصة ( لجنة الحرية النقابية, وكذا لجنة مراقبة المعايير الدولية للشغل).
هذا المرسوم أما من حيث قيمته وحجيته القانونية, فمن المبادئ الأبجدية في القانون مبدأ تراتبية مصادر القانون ويقضي هذا المبدأ بأن القانون العادي ( التشريع) يسمو على ما دونه من مراسيم وقرارات وفي حالتنا لدينا ظهير 24 فبراير 1958 المتعلق بالقانون الأساسي للوظيفة العمومية والذي صدر لاحقا على المرسوم المذكور وهو لا يتضمن أية إشارة الى الإضراب وأكثر من ذلك فإنه لا يذكر الإضراب ضمن حالات التغيبات غير المبررة
.
والأصل في الأشياء الإباحة بمعنى أن قانون الوظيفة العمومية لا يمنع الموظفين من ممارسة حق الإضراب ولذلك يعتبر الإضراب تغيبا مبررا وهو في ذلك مثل باقي التغبيات الأخرى المبررة بدواعي صحية أو نقابية وغيرها التي لا يتم اقتطاع أجور أيامها لأنها تغيبات قانونية.
وتبعا لذلك فلا يمكن التلويح بتطبيق المرسوم المذكور بالأولوية على ظهير 24 فبراير 1958 هذا فضلا عن أن هذا الظهير لاحق على المرسوم ( 5 فبراير 1958) ومن جهة أخرى فقد صدرت بعد 1958 مجموعة من الدساتير ابتداء من دستور 1962 الى دستور 2011 وكلها تؤكد صراحة على أن تنظيم ممارسة حق الإضراب هي من اختصاص القانون التنظيمي الذي يعلو درجة على التشريع العادي كما هو معلوم ويأتي مباشرة من حيث التراتبية بعد الدستور.
وعليه فابتداء من دستور 1963 لم يعد معنى لمرسوم 1958 ناهيك عن تناقضه مع ظهير 1958 السابق الذكر والذي ينص في فصله الرابع على أنه " يمارس الموظف الحق النقابي ضمن الشروط المنصوص على في التشريع الجاري به العمل.
ولا ينتج عن الانتماء أو عدم الانتماء الى نقابة ما أية تبعة فما يرجع لتوظيف المتمرنين الخاضعين لهذا القانون العام وترقيتهم وتعيينهم أو فيما يخص وضعيتهم الإدارية بصفة عامة ".
ثم إن هذا النظام لم يضع ضمن العقوبات التأديبية الاقتطاع من الأجرة ( الفصل 66), اذ لو كان في ذهنية ونية المشرع أن يعاقب على الإضراب لوضع ذلك ضمن لائحة العقوبات التأديبية التي تعتبر حصرية, وحتى عندما تحدث عن التوقيف مع ما يستتبع ذلك من توقيف الأجرة مؤقتا كعقوبة تأديبية فقد ربط ذلك بالضمانات التأديبية. وفي الأخير فإن الفصل 75 مكرر عندما تحدث عن حالة ترك الموظف لعمله بصفة نهائية اشار الى حالات التغيب المبررة قانونا ولم يذكر الإضراب وحالة ترك العمل أو الانقطاع عنه طبعا ليست هي حالة الإضراب. وهكذا يتضح بان النظام الأساسي للوظيفة العمومية لم يشر لا من قريب ولا من بعيد لموضوع الإضراب وتركه على اباحته بل على العكس من ذلك أكد على الحق النقابي للموظف وضماناته في عدم تأثيره على وضعيته الإدارية مثلما أكد وبنفس الصيغة المرسوم السابق الذكر.
والخلاصة أن مرسوم 5 فبراير 1958 يعتبر نصا ملغيا ولا قيمة له لأنه ملغى ضمنيا بظهير ظهير 24 فبراير 1958 المتعلق بالنظام الأساسي للوظيفة العمومية ولا يمكن اعتباره مرسوما تطبيقا له إلا إذا طبقنا مبدأ رجعية القوانين. كما أن المرسوم المذكور يعتبر لاغيا بحكم دستور 1962 الذي حصر موضوع تنظيم حق الإضراب في مجال القانون التنظيمي.
ونأتي الآن للحديث عن الظرفية القانونية التي يطرح فيها هذا الموضوع الآن فهي الظرفية الحقوقية التي تتمثل بالخصوص في تقرير باب خاص في دستور المملكة ( الباب الثاني) للحقوق والحريات وضمنه نص الفصل 29 على أن " حق الإضراب مضمون ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته".
ولنلاحظ بدءا على أن الدستور قد يحدد سلفا موضوع القانون التنظيمي حصرا في شروط وكيفيات الممارسة أما الإضراب كحق فهو مضمون وبالتالي لا يمكن مصادرته بالقانون التنظيمي فكيف للبعض أن يصادره الآن خارج أي تغطية قانونية ??.
من هذا المنطق يعتبر الاستناد الى مرسوم 5 فبراير 1958 في ظل الدستور الجديد ذي الحمولة الحقوقية نوعا من " الاستهتار" بالوثيقة الدستورية وهي ما زالت تشق طريقها آفاق التنزيل التشريعي .
كما يعتبر هذا الاستناد ضربا لديباجة الدستور – ولا ننسى أنها جزء من الوثيقة الدستورية بالنص الصريح – والتي تنص على التزام المغرب بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
والمغرب ملتزم باحترام الحريات النقابية مادام قد صادق على الاتفاقية رقم 98 المتعلقة بالحق النقابي والمفاوضة الجماعية منذ 1957 ومادام قد صادق على اتفاقية منظمة العمل الدولية المتعلقة بالحقوق الأساسية المرتبطة بالعمل (1998) وبالطبع فإن الإضراب الى جانب التفاوض الجماعي هما الوسيلتان الأساسيتان لممارسة المنظمات النقابية لوظيفتها المطلبية المتمثلة في الدفاع عن المصالح الفردية والجماعية للفئات التي تمثلها.
ولا يمكن الحد من ممارسة حق الإضراب فبالأحرى منعه إلا في حالات جد استثنائية معرفة وهي تلك التي تتعلق بالمصالح الحيوية والتي تحددها منظمة العمل الدولية ( لجنة الحرية النقابية ) في " المصالح التي قد يسبب توقفها خطرا حالا وحقيقيا بالنسبة لحياة وأمن أو صحت السكان أو جزء منهم" ( لجنة الحرية النقابية دراسة عامة سنة 1994).
هكذا إذ يتضح بأن البحث عن مرسوم 5 فبراير 1958 لاستعماله كمشجاب هش لقرار اقتطاع اجور الموظفين المضربين هو في حقيقته محاولة لمنع وتحريم حق الإضراب على الموظفين وفي غياب القانون التنظيمي للإضراب يبقى كل تدبير من هذا القبيل أو غيره يروم المساس بحق الإضراب عمل غير مشروع وينطوي على مساس خطير بالدستور وخرق سافر للمعايير الدولية التي التزم بها المغرب.
ثانيا: مفهوم قاعدة " الاجر مقابل العمل".
استند السيد وزير العدل والحريات أيضا في قراراه الملوح به الى قاعدة الأجر مقابل العمل وكأنه وجد مخرجا في القواعد العامة التي لا تحتاج الى نص قانوني!
والواقع أن هذه القاعدة المستدل بها تبدو نشازا في حقل العلاقات المهنية للوظيفة العمومية وهو ما نوضحه في التالي.
فلقد درسنا في كليات الحقوق أن نقدم هذه القاعدة باعتبارها توضيحا للصبغة التبادلية لعقد الشغل، اذ نقول أن من خصائص عقد الشغل أنه عقد تبادلي ملزم للجانبين، إذا توقف أحد طرفيه عن تنفيذ التزامه حق للطرف الآخر أن يوقف التزامه المقابل ونقدم كمثال على ذلك توقف أداء الأجر بمناسبة مرض الأجير أو تغيبه عن العمل لأسباب شخصية أو إصابته بحادث أو إضرابه عن العمل.
وإذا فهذه القاعدة نشأت في إطار القانون المدني وتحديدا ضمن نظرية العقد والمبينة على مبدأ سلطان الإرادة والتراضي وانتقلت الى قانون الشغل مادام عقد الشغل يخضع – باعتباره عقدا تبادليا- لقواعد نظرية العقد ما لم يتضمن قانون الشغل قواعد مقيدة وآمرة تحد من مبدأ سلطان الإرادة والموضوع يتجاوز حدود هذه المقال .
فهل يمكن تطبيق هذه القاعدة في إطار الوظيفة العمومية ?
للجواب على ذلك يقتضي المنطق القانوني الجواب عن التساؤل التالي: هل علاقة الموظف بالإدارة هي علاقة تعاقدية في إطار عقد الشغل ويحكمها قانون الشغل ?
بالطبع لا، فعلاقة الموظف بإدارته هي علاقة نظامية لا مكان فيها لمبدأ سلطان الإرادة وبالتالي فهي بعيدة كل البعد عن تطبيق قواعد قانون الشغل والقانون المدني.
ذلك أن علاقة الموظف بالإدارة يكمها القانون الأساسي للوظيفة العمومية ولا مكان فيه للتعاقد وإذا كان هناك بعض الأشخاص الذين ارتأت الإدارة التعاقد معهم لاعتبارات المصلحة أو لعدم توفر شروط الموظف العمومي فيه فإن هذه العلاقة تخرج من دائرة قانون الوظيفة العمومية ويحكمها قانون الشغل أو القواعد العامة للقانون المدني.
وهكذا نلاحظ في إطار قانون الوظيفة العمومية أن قاعدة الأجر مقابل العمل كقاعدة تعاقدية غير موجودة وما كان لها أن توجد لأن القول بتطبيقها يجب أن يستتبع حتما ادخال الطابع التعاقدي للعلاقات المهنية داخل الوظيفة العمومية وهذا سيؤدي عمليا الى نتائج غير مقبولة, إذ يجب أن يتوقف أجر الموظف كما توقف عن عمله لأي سبب كان لأسباب صحية مثلا أو إصابته بحادث مهني أو غيره على أن يتم تغطية هذا الفقدان للأجر بأداء تعويض إما تدفعه الإدارة أو شركة التأمين أو صندوق خاص مثل الضمان الاجتماعي .
هذه هي وضعية الأجير الذي يتوقف عن اداء عمله اذ تتوقف أجرته, أما عن وضعية الموظف فإن أجرته تبقى مستمرة ولو تغيب لمرض أو حادث أو تغيب بترخيص .....الخ (الفصل 40).
والاستثناء الوحيد هو ما نص عليه الفصل 46 مكرر من امكانية طلب الموظف لرخصة التغيب مرة واحدة لكل سنتين بدون أجر لا تتعدى شهرا واحدا غير قابل للتقسيط وبعد موافقة رئيسه وتحدد كيفية منح هذه الرخصة بمرسوم.
وهكذا نلاحظ بأننا بعيدين جدا عن الطابع التعاقدي وأن كل أوضاع الموظفين بشأن تغيباتهم بأجر أو بدون أجر يحددها القانون ولا مجال فيها لإعمال قاعدة الأجر مقابل العمل كقاعدة مدنية.
ولذلك فلا يمكن الاحتجاج بهذه القاعدة واقحامها في مجال غير مجالها المنبتقة منه والمنسجمة مع قواعده الأخرى .
ومن تم يجب البحث عن مسوغ قانوني آخر لتأسيس مشروعية الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين ولن يكون بالطبع خارجا عن اطار القانون التنظيمي الموعود به دستوريا.
ثالثا:القضاء و حق الإضراب
لقد بدا للسيد الوزير أن يبحث لدعم قراره من خلال الاجتهاد القضائي و ذكر بأن القضاء قد قال بذلك.
وهنا علينا أن نتوقف قليلا فالسيد الوزير يعلم جيدا أن الاجتهاد القضائي لكي يسمى كذلك لابد أن يشكل من قرارات متواثرة لمحكمة النقض باعتبارها محكمة قانون و موكول لها نظريا توحيد العمل القضائي وهنا يمكن أن يكون القضاء مصدرا تفسيريا للقانون.
و الواقع أن السيد الوزير لم يقل بذلك و لكنه أشار إلى المحكمة الإدارية بالرباط و المحكمة الابتدائية بأكادير, وإذا كنت لا أدري ما قالت هذه الأخيرة في الموضوع تحديدا فإن استقراء العمل القضائي –وهو محدود جدا- بشان الإضراب يسوغ لنا القول بانعدام أي حكم قضائي يقول بتطبيق قاعدة لا أجر بدون عمل و بالتالي يعطي مشروعية لاقتطاع أجور الموظفين المضربين.
والحكم الصادر عن إدارية الرباط و الذي يقصده السيد الوزير حتما هو حكم صادر بتاريخ 2/7/2006 و الذي يقضي بمشروعية الاقتطاع من أجر الموظف شارك في إضراب غير مشروع ومن تم فإن تغيبه لم يكن مبررا.
بمعنى أن حكم المحكمة الإدارية لم تقرر إعمال قاعدة لا أجر بدون عمل لأن الموظف تغيب عن العمل بسبب إضرابه بل لأن الإضراب اعتبرته المحكمة غير مشروع وعدم المشروعية تعني العدم كما يعرف أهل القانون ومن تم كان التغيب غير مبرر.
وهكذا يتضح بأن حدود تدخل القضاء هو مراقبة مشروعية الإضراب طبقا للقواعد العامة دون أن يسمح لنفسه بالتدخل في الجوانب الأخرى و التي يعلم أنها مجال خالص للقانون التظيمي.
ولأن من شأنه تجاوز تلك الحدود المس بمبدأ فصل السلطات الذي يقوم عليه نظام الدولة.
وما قامت به المحكمة الإدارية بالرباط في الحكم المذكور ليس إلا تأكيدا لأحكام سابقة ومن قرار المجلس الأعلى عدد 96 في 16/1/1996 جاء فيه على الخصوص" إن الإضراب و إن كان حقا مشروعا بمقتضى القانون فإن القرار المطعون فيه حين اعتبر بأن ما قام به العمال يهدف إلى تحقيق مطالب مشروعة فإنه لم يوضح ما هي المطالب حتى يمكن تقييمها و البحث عن مشروعيتها"
وفي قرار آخر تحت عدد 19 في 14/3/2000 جاء فيه على الخصوص" الإضراب و إن كان حقا مشروعا فإن الغاية منه الدفاع عن حقوق مكتسبة أو مشروعة للعمال و الإضراب النقابي التضامني مع عامل تم توقيفه لا يهدف إلى مصلحة عامة للمضربين و بشكل بالتاي عملا غير مشروع "
وبغض النظر عن محتوى هذين القرارين فما هو واضح أن القضاء يقف عند حدود مناقشة مشروعية أو عدم مشروعية الإضراب بناء على مفهوم الإضراب نفسه ولا يتجاوزه إلى ما دون ذلك و بالتالي فلا يمكن تحميل القضاء وزر ما قرره السيد الوزير ولا يمكن تقويله ما لم يقوله.
ذلك أن القضاء واع بأنه لا يمكن أن يتجاوز حدود سلطته المحددة دستوريا وفي موضوع الإضراب فإن الدستور قد اعتبره من مجال القانون التنظيمي حصريا ولا اجتهاد مع وجود النص. ويقول محمد شركي :
وقد يمس ظلم المشغل والمشتغل معا طرفا آخر خصوصا عندما يكون المشغل إدارة عمومية والمشتغل بها موظفا ،وهذا الطرف هو عموم المواطنين الذين تضيع مصالحهم بسبب الإضراب ، ويستخدمهم المشتغل دروعا بشرية من أجل الضغط على المشغل . فهؤلاء المواطنون يستغلون أبشع استغلال من طرف المشغل والمشتغل معا اللذين يعرضان مصالحهم للضياع ،الأول بتجاهل مطالب المشتغل ، وهذا الأخير بإلحاق الضرر بالمواطنين وليس بالمشغل. والذين يطالبون بحق الإضراب وبالاحتفاظ بالأجور هم بمنزلة من يريد أن يحصل على حقه ضعفين أو مرتين ، وهو ظلم لأن الظلم عبارة عن وضع الأمور في غير وضعها الطبيعي . وفي التعبير العامي يسمى الشيء بدون مقابل باطلا ، والباطل نقيض الحق . فالذين يريدون الاحتفاظ بأجورهم ،وهم في حالة إضراب يريدون باطلا ، وهم بذلك غير محقين . وإذا كانت الإضرابات في المجتمعات المتحضرة تؤتي أكلها بشكل أو بآخر ، فإنها عندنا صارت مجرد عبث لا معنى له حيث حطمت الإضرابات عندنا في بعض القطاعات أرقاما قياسية حيث مرت سنوات وهي تتكرر دون أن يغير المشغل والمشتغل معا من مواقفهما وتعنتهما . ويبدو وكأن المشغل المماطل عندنا يجازي المشتغل المضرب على حساب الصالح العام المعطل والضائع . فالمشغل المماطل لا يؤدي ما عليه من حق المشتغل ، والمشتغل المضرب لا يقوم بما عليه من واجب مقابل ما يتقاضاه من أجر. وهكذا صار الإضراب عندنا عبثا وفي حكم المؤدى عنه وكأنه عمل . وبناء على هذا من ذا الذي يكره أن يضرب عن العمل وأجره مضمون ؟ وعندما تحصى الخسارة المادية عندما تصرف الأجور في أيام الإضراب تكون النتيجة كارثة مالية تلحق بالمال العام ، فضلا عن الخسارة المعنوية والمادية أيضا بالنسبة لمصالح المواطنين المعطلة بسبب الإضراب . ففي قطاع التربية على سبيل المثال لا الحصر تضيع مع الإضرابات حصصا دراسية معتبرة تقلص من الزمن المدرسي وزمن التعلم ، إلى جانب خسارة مادية تتجلى في دفع أجور دون عمل ، فضلا عن خسارة معنوية ومادية أيضا للمتعلمين وأوليائهم . وما قيل عن قطاع التعليم يقال عن باقي القطاعات العمومية. وإذا جادل المشغل والمشتغل معا بعضهما بعضا في قضية الاحتفاظ بالأجور في حال الإضراب ،فمن من هما سيجادله المواطنون بخصوص مصالحهم الضائعة ، وعلى من تقع مسؤولية تعويض خسارتهم المادية والمعنوية ؟ ويبدو أن الإضرابات عندنا ومنذ تولي الحكومة الجديدة صارت وسائل ضغط سياسية لتصفية الخلافات الحزبية بين الحزب الفائز في الانتخابات والمشكل للحكومة ، وبين غيره من الأحزاب التي تعثر حظها . ومن المؤكد أن الأحزاب المعارضة سواء المحسوبة على اليسار أو التي تنعت بأحزاب الدولة قد سطرت هدفا واحدا ووحيدا هو إثبات أن الحزب الذي وصل أول مرة إلى مركز صنع القرار ليس أهلا لذلك متناسية أنها وصلت قبله إلى هذا المركز ولم تكسب الوطن خيرا بل كانت وراء خرابه الذي تريد أن تحمل مسؤوليته الحزب الحاكم وحده ، وتتملص منها تملص الشيطان من كفار بدر . فهل ستغلب جميع الأطراف الحكمة من أجل إنقاذ هذا الوطن من الانهيار الشامل الذي لن يجر وراءه إلا الدمار ـ لا قدر الله ـ أم أن الكل سيتمادى في غيه وضلاله مع وجود نية مبيتة لتدمير هذا الوطن عن عمد وسبق إصرار ؟؟؟ فالأيام المقبلة ستكشف عن محبي هذا الوطن حقا وعن المتظاهرين بحبه وصدق الشاعر إذ يقول :إذا اختلطت دموع في جفون //// تبين من بكى ممن تباكى محمد شركي
Aucun commentaire