المشروب المجاني المقدس في الصحراء بالجنوب المغربي
من اعداد الأستاذ الباحث : الحسين البقالي
يتميز المغرب بالاختلاف والتنوع ،فأينما وليت وجهك تجد تقاليد وثقافات تختلف من جهة إلى أخرى من جهة الى جهة ومن مدينة الى مدينة ومن قرية الى قرية من حي الى حي ومن مدشر الى مدشر، فثقافات الصحراء بالجنوب المغربي تختلف عن ثقافات الشمال، وثقافات الغرب تختلف عن ثقافات المشرق، وكذلك بوسط جبال الأطلس هناك ثقافات تختلف تماما عن الثقافات الأخرى.
كان المغرب وما زال نافذة مُشرّعة على أوروبا، فكلما عصفت رياح التغيير بهذه القارة نال المغرب نصيبه حيثما هو. لم تكن العادات الغذائية استثناء من هذه القاعدة، فبعدما فتحت أوروبا أبوابها للمشروبات الجديدة القادمة من مختلف بقاع العالم، دخل الشاي أوروبا ملبيا طَلَبات البرجوازية الأوربية المفتونة بمنتوجات الشرق الأقصى، فأصبح موضة عابرة في مختلف البلدان الأوروبية، إلا إنجلترا التي تبنّته عادة غذائية جديدة، فصرفت القهوة من على موائد الشعب البريطاني وحل الشاي بديلا عنها حتى صار أحد رموز الثقافة الإنجليزية
ولعل قوة المغرب وعراقة ثقافته وحضارته تكمن في هذا الاختلاف زوالتنوع الذي يعطي طابعا متميزا يضع المغرب في مصاف الدول الغنية ثقافيا وحضاريا ويجتمع فيه ما تفرق في غيره.
ظهر الشاي، أو التَّاي في بداية تناوله لدى رحّل الصحراء منذ أواسط القرن التاسع عشر كواحد من المشروبات المحرَّمة، إذ كان كثيرون يعتقدون أنّه مادة مخدرة ولا يختلف في ذلك عن الخمر والنبيذ. ويؤكد الكاتب والباحث في التراث الشعبي الصحراوي إبراهيم الحيسن لـ"العربي الجديد" أنّ الشاي في الصحراء هو تماماً مثل السوما عند الهنود (شراب مقدس)، فهو ليس مشروباً تقليدياً وحسب، بل سمة من سمات الكرم الصحراوي، وعلامة من علامات الحفاوة والاستقبال، إذ إنّ الصحراويين ينادون ضيوفهم لتناول الشاي أكثر من الأكل.
يتابع: "تقديم الشاي للضيوف في الصحراء لا يقل أهمية عن تقديم اللبن واللحم، بل إنّ بعض الضيوف يفضله على جميع أنواع المأكولات والمشروبات". كذلك، فالشاي وسيلة من وسائل التواصل والاندماج بين الأفراد والجماعات، بل قد يصبح الشاي شرطاً ضرورياً لتنظيم اللقاءات وعقد المجالس والاجتماعات
وبالنظر إلى المجتمع الصحراوي، نجد أن أكثر ما يميزه هو ثقافة شرب الشاي، إذ يحرص أهل الصحراء على احترام تقاليد إعداده، فعادة ما تقام في مجالس ومناسبات خاصة، فله دلالات رمزية وأسطورية.
فأهمية الشاي بالنسبة لهذا المجتمع وفي عموم الصحراء المغربية، لا تكمن في قيمته كمشروب، بالقدر الذي تتصل برموزه الثقافية، حيث يمثل علامة بارزة للبرهنة على الكرم وحسن الحفاوة، كما أنّه من أوْلى ما يستحسن أن يستقبل به المدعوعند استضافته، ولهذا يقلَ أن تجد بيتاً صحراوياً لا يتوفر على كمية كبيرة من مادة هذا المشروب الغالي ذي المكانة الكبيرة في نمط تفكير الناس وأسلوب عيشهم.
كما أن زمن الالتفاف حول صينية « الآتاي » تكون في الغالب أثناء الليل، باعتباره اللحظة المحببة للنفوس والساعة التي يحلو فيها السهر والمسامرة، إذ يستحيل أن تقام جلسة في الليل من دونها؛ أي الصينية أو « الطبلة » كما هو معروف، لكونها مركز الاجتماع والاستمتاع بأطيب الأقاويل في الشعر والحكمة، وفي تبادل الأحاديث والنقاشات في الامور التي تهم الحياة بشكل عام.. وكلما كان عدد الأفراد الحاضرين في الجماعة كثيراً، ازدادت فرصة الاستئناس باللحظة أكثر وتقوت حظوظ تبادل الإفادات في الجلسة.
والمهم في إعداد الشاي الصحراوي، أنه لا يمنح شرف تولي مهمة تحضيره، إلا لمن استوفى الشروط، ومنها أن يحمل نسباً عريقاً، وأن يكون ذا سيرة حسنة، مرفوقة بضرورة اتسامه باللباقة، وخلوقاً يجيد إلى جانب ذلك فن الحديث والاستماع، واحترام عادات التحضير المتعارف عليها بمهارة، مع قدرته على أخذ زمام المبادرة في النقاش، والأخذ بعين الاعتبار كل ما يستوجبه ذلك من جودة وإتقان ومهارة تلازمه من البداية حتى نهاية السمر.
وبالتالي فشرف إعداد الشاي، ليس تكليفا، وإنما شارة تشريف وحظوة لا ينالهما من الجالسين، إلا من هو أهل لهما، ممن ابتسم له الحظ ونال هبة القبول، وله فوق كل هذا موقع اعتباري في قلوبهم.
وبالإضافة إلى ذلك، يحمل هذا الطقس وتلك الطريقة في الاختيار، دلالة عميقة لإظهار الهالة التي يتم إضفاؤها على الجلسة، والمرتبة التي يحوزها الشاي في حياة القبيلة كمشروب شعبي.
قد يكون « آتاي » من المشروبات الضرورية التي لا يخلو منها بيت مغربي، وقد يكون في الصحراء المغربية دليلا على العزة والكرم وحسن الضيافة..أح تيّيت" هكذا يطلق الحسانيون على الرجل "التياي" أي الذي يتقن إعداد الشاي على الطريقة الصحراوية، وغالباً ما يرمى بالأكواب الفارغة كعادة مرتبطة (خصوصاً إذا كان المجلس يتكون من الشباب). ومن المقولات المعروفة: شربنا شاياً صحراوياً بجيماته الثلاث: أجْمَرْ (من جمر الفحم )، وأجَّرْ (مدة إعداده طويلة)، وإجْمَاعَ (أي وسط جماعة من الناس الجالسين والمتحلِّقين حول الطبلة لشُرب الشاي، وتبادل الأحاديث والمشاركة في النقاش الذي يدور في مجلس الشاي ومائدته).
Aucun commentaire