تاريخ الجاسوسية بتارودانت
صور من تاريخ الجاسوسية بتارودانت
إعداد الكاتب والباحث علي هرماس:
بعدما عرفت الحياة الاقتصادية بتارودانت انتعاشا لم يسبق له نظير في تاريخ المغرب، اهتم السعديون بالسيطرة على طرق التجارة الصحراوية ومراقبتها، عبر تحويلها خاصة من توات وتافيلالت نحو سوس وحاضرته تارودانت. بذلك أصبحت هذه الأخيرة أهم المراكز المتحكمة في طرق التجارة جنوب الصحراء فقصدها التجار المسلمون والأوربيون، خاصة منهم الإنجليز، واشتهرت ببضائعها المتنوعة: كالأواني النحاسية، والأنسجة الصوفية، والمصنوعات الجلدية، وبصفة خاصة السكر الذي لم يكن بإمكان القصر الإنجليزي الاستغناء عنه، وقد أشار تقرير مؤرخ في 25 أكتوبر 1598 وهو لأحد الجواسيس الإنجليز الذين زاروا تارودانت إلى أن السلطان المنصور كان يجني من وراء هذه الصناعة أزيد من 800.000 مثقال في السنة.
كانت التجارة المغربية في أوج ازدهارها، فقد كان يصدر الصوف والحديد والنحاس والبارود ، بالإضافة إلى السكر وكان المغرب فوق دلك، يتوفر على رصيد هام من الذهب الذي يجلب من بلاد السودان، فكان أمر طبيعي أن يصبح محط أنظار وتطلع بعض الدول الأوربية إما لاحتلاله، أو على الأقل الحصول على امتيازات تجارية ومبادلات تفضيلية، لتبدأ الدسائس والمكائد للسيطرة على بعض تلك الموارد الطبيعية إن لم يكن جميعها، وما كتاب “ذهب سوس” الذي ألفه رولان لوبيل Roland Lobill وقام بتعريبه قاسم الزهيري وهو وطني مقاوم وأحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال ووزير ودبلوماسي، ترجمة الكتاب جاءت لتميط القناع عن وجه من أوجه الجاسوسية الذي كانت تعتمده القوى الأجنبية بغية التسلل إلى المغرب والتغلغل في المجتمع الذي سيصبح لاحقا محمية كولونيالية.
لقد عانى المغرب مند دولة السعديين كأدنى تقريب زمني عددا من الويلات الطبيعية والبشرية، أخطر وجه لهذه الويلات ويمكن اعتباره ظاهرة بعدما امتدت لقرون، هي الجواسيس في صورة مبعوثين رسميين وتجار ورجال دين وغير هذه الصفات، كما لعب نفس الدور عدد من الاسرى الاوربيين بما حصلوا عليه من معطيات أثناء احتجازهم، وقد سجل التاريخ أسماء من جنسية اسبانية أمثال خواكين غاثيل Joaquim Gattel من تاراخونا انطلق سنة 1826، وفولك Folak من قادس سنة 1879، اشتهر باسم القايد اسماعيل، وخوسي ماريا دي مورغا الملقب الحاج محمد البغدادي، هذا الصنف من الجواسيس أخطر بكثير من القساوسة عملاء التنصير تحت عباءة رهبنة البعثات الانسانية والخدمات الاجتماعية، والمستشرقين الذين يتعلمون بداية اللغة العربية وحتى اللهجات الأمازيغية المحلية من أجل القيام بدراسات اجتماعية موجهة الغاية حسب التخصص النوعي.
النموذج هنا يخص دولة الانجليز، في محاولة احتلال جزء من الجنوب المغربي هو منطقة سوس، بطل هذا الكتاب جاسوسا بريطانيا أتى متسترا ليبرم اتفاقية تجارية مع السلطان أحمد المنصور الذهبي فاستغل الفرصة للقيام بجولة استكشافية لتقصي الأخبار والحقائق عن هذا القطر، وقد وصف منطقة تارودانت كونها تشمل على مساحة ربما أوسع من مساحة مراكش، إلا أنها اقل من حيث عدد المنازل والسكان، والشيء الذي كان يجعل المدينة أكثر اتساعا ويضفي عليها لطفا آخاذا بمجامع القلوب، هو وفرة البساتين والحدائق التي تفرق بين أحياء كاملة وتمتد إلى أسورا المدينة، فتتخذ شكل دائرة من أشجار الفواكه ترصع تارودانت كعقد عاطر. لاحظوا هذا الوصف الذي استمر بتارودانت وشاهدناه معاينة لا وصفا في عقد السبعينات، أما عن عنوان الكتاب فيمكن قراءته من زاويتين، الأولى كون صاحبه كان على دراية يقينية من كمية إنتاج منطقة سوس لمختلف المواد وتنوع طبيعتها التي تصدر جلها للانجليز وبأثمان باهظة ، بينما القراءة الثانية تحيل على كمية الذهب فعلا الذي يتم ترويجه بسوس بعضه محلي وجله مستورد من بلاد السودان.
كما وصف ضفتي نهر سوس بأنهما مليئتان بخمائل عظيمة من شجر الدفلى والنضار/ الطرفاء والقيقلان/شجر شوكي ، وان النهر دو المياه الغزيرة يخصب الوادي بأسره، فيسقي جميع الأراضي من الجانبين مهما بعدت وكان يسمع صوت نضاخات المياه عقد بها حمر عمي أخذت تدير دواليب علقت عليها أقداح – يقصد نظام السقي بدلاء الناعورة – وينبت من حولها الشعير والذرة وأشجار الزيتون واللوز والبرتقال، والكل مليء بالطيور والحشرات التي لم يكن يعرفها الجاسوس البريطاني سوميرفيل. لاحظوا معي التنوع الايكولوجي سابقا في الطبيعة بتارودانت، أما اليوم فالمبيدات الكيماوية الفلاحية أتت على بعض أنواع العشب والشجيرات البرية، وبالتالي انقراض العديد من أنواع الحشرات التي تقتات عليها بعض أصناف الطيور، وما نقص عملية الإبادة البشرية هذه للبيئة الطبيعية تكلف به الاستنزاف والجفاف. زار أيضا سوميرفيل الحقول الشهيرة لقصب السكر، وسجل كونها تمتد على مساحات شاسعة، كما أن سيقان القصب تبلغ من الطول حدا يغيب الفرسان وسطها، وقطر دائرة كل قصبة عظيما، وما بها من عصير السكر لا مثيل له، ويبلغ الحصاد 7000 رطل من السكر في الهكتار، كما أن المعاصر والمطاحن منهمكة في العمل ومن حولها عملة نصف عراة ينشدون أغاني غريبة، كانوا يديرون أخشابا طويلة لطحن النباتات الثمينة فيسيل عصيرها في قنوات خشبية، ثم يصفى على النيران ويقطر في صحون كبرى مثقوبة. كما تمكن الجاسوس البريطاني سوميرفيل من أن يزور كذلك مصانع البارود باذن من الباشا الذي سهل عليه رغبته الأكيدة في الاطلاع، فشهد ستة مناجم كانت أغنى مما شاهده في مراكش. هذه بعض المقتطفات من مذكرة طوماس سوميرفيل التي قدمها للأمير البريطاني روبيرت دو فروكنت ديسيكس Robert de Frokint Desics مؤرخة في 25 أكتوبر 1598م : يوجد جنوب المغرب من وراء سلسلة الأطلس الشاهقة بلاد واسعة الأرجاء تسمى سوس، وهي عبارة عن صحن عظيم ممتد الأنحاء محاط بالجبال من ثلاثة جهات وبالمحيط من الغرب، والوارد من المغرب لا يمكنه أن يجتاز الجبل إلا من ثلاث ممرات صعبة المنفذ، ومن هذه البلاد الشهيرة يجلب السلطان المغربي في الغالب أهم الموارد التي نشتريها منه بثمن باهظ، ويمكن بيعها للغير، وقد فكرت أنه قد يكون من المفيد أن نتملك هذه الثروة باحتلال سوس. إن غزوها سهل إذ لا يوجد في الواقع جيوش محلية يمكن أن تعارض فرقة من الجنود الانجليز المسلحين الحازمين، إن حامية تارودانت عاصمة سوس ضعيفة، ولها سلاح رديء، وأحسن الفرسان الذين عليهم الكفاح الحقيقي ممن هم تحت الأوامر المباشرة لباشا المدينة، سيكونون منشغلين في ناحية أخرى بفضل ظروف مواتية، ذلك أن باشا تاوردانت المطلع إلى عرس السلطان أخيه غير الشقيق سيوقد في الميعاد فتنة بين القبائل المغربية؛ إن فوائد امتلاك سوس لا حصر لها، فالوادي غني جدا على طول النهر الذي يجتازه في مساحة تبلغ 30 ألف ميل على ضفتي النهر، وهناك يقع استغلال مزارع القصب التي تمون انجلترا بجميع ما تحتاج إليه من السكر، وهذه المزارع تدر على السلطان أزيد من 800000 مثقال في السنة، والإنتاج من الأهمية بحيث يمكن بيع السكر إلى الفرنسيين، وزيادة على ذلك تزرع كميات وافرة من أشجار الزيتون وأشجار أركان التي تعطي زيتا لا يدرك تجارنا قيمتها، – يعني أن أشجار الأركان التي نستغلها اليوم بأحواز تارودانت غرسها أجدادنا السعديون- ويوجد كذلك اللوز والثمر والبرتقال والليمون،- كانت تارودانت تحفل بهذه الأشجار خصوصا النخيل المتكاثف والبرتقال بجميع أنواعه إلى الأمس القريب، لكن قلة الوعي وطول اليد سبقت القضاء وعجلت القدر- يضيف الجاسوس وتصدر من هذه الناحية الجلود– للأسف لا حظوا معي زمن تارودانت الخالي ايام كانت تصدر الجلود خام ومدبوغة من دار الدباغة باسراك يعني أن جزء من تاريخ دار الدباغ بساحة أسراك زمن الدولة السعدية كان بمثابة بورصة مناقصة دولية لمواد جلدية خام ومصنعة تقليديا، وها هي الآن تلك الصناعة المحلية بتارودانت مع الأسف تتوارى يوما بعد يوم لولا بعض الشباب مكدسين في دكاكين ضيقة داخل دروب وأزقة عميقة يبدعون نماذج فريدة من “الصندالة” الرودانية تباع لوسطاء من فاس ب80 درهم الذين يتاجرون بها في اسبانيا ب30 يورو أي 360درهم بذكر صاحب ورشة في تارودانت.
أخيرا الأهم في سوس ملح البارود الذي يوجه الى لندن، فهناك آبار غنية جدا يستخرج منها أكثر من 600 قنطار من ملح البارود كل سنة. لماذا ملح البارود بهذه الأهمية بالنسبة للجاسوس البريطاني؟ لأننا بصدد حقبة تاريخية من القرون الوسطى التي انطلقت فيها دول أوربا نحو الاكتشافات الجغرافية الكبرى – هكذا سميت لنا في المقررات الدراسية- وتحتاج العملية لملح البارود الأسود لرمي قذيفة مدافع الرجم وتكون طويلة بفوهة ضيقة، أيضا مدافع الهجوم لاقتحام القلاع عنوة والتحصينات بقوة النار، تكون قصيرة بفوهة عريضة وهي المسماة مدافع المهراز، سرق بتارودانت ذات ليلة النموذج الوحيد منها من أمام مقر العمالة مطبوع عليه خلف فتحة الفتيل شعار التاج الملكي البريطاني للقرن الثامن عشر. هذه هي الثروات الحقيقية لهذه الناحية ولا يوجد ذهب سوس كما كان يعتقد الناس ذلك من قديم، فذهب سوس يأتي من السودان، عندما كان السلطان يقيم بتارودانت، كانت هذه القوافل تفد بأحمالها، فتنزلها هناك ثم تنقل الى بقية المغرب، وهذا ما جعلهم يطلقون على الذهب اسم ذهب سوس، لكن هناك لحد الآن حركة تجارية نشيطة بين تارودانت وبلاد غينيا – لهذا السبب أنشأت الدولة السعدية تحصين السور بتارودانت ووضعت له خمسة أبواب بنقط إستراتيجية محددة بعناية، ونظمت جباية المكوس على المنتجات التجارية – إلى أن قال الجاسوس طوماس سوميرفيل في ختام هذه المذكرة بعد أن ذكر التدابير التي يراها مناسبة والحيل التي قام بها : ” وهكذا بمعونة الله أستطيع أن أقدم مملكة هدية لحضرتكم”. هذا عن تاريخ الجاسوسية البريطانية ، فماذا عن منافستها اسبانيا التي وضعت المغرب نصب عينها رغم كونها جاءت متأخرة زمنيا؛ نورد قصة جاسوس اسباني، هي أقرب من الخيال والأساطير، حدثت إبان فترة المولى سليمان العلوي وهو بمدينة مراكش مركز حكم الدولة آنئذ، اسمه دومنكو عوباديا إلبليتش domingo Obadia y Leblich من منطة كطلونيا،- عوباديا اسم لاثيني يهودي من شقين oba تعني عبد وdia تعني الرب أو الله لتعطينا عبد الله؛ وصل مدينة طنجة سنة 1218هـ/1803م وانتحل اسم علي باي العباسي، مدعيا انه ولد بمدينة حلب السورية، كان قد تلقى معارف علمية في الرياضيات والفلك والتاريخ الطبيعي، يتكلم اللغة العربية الفصحى باثقان والايطالية والانجليزية، بعدها عرض على اسبانيا مخطط رحلة طويلة عبر تخوم إفريقيا، لكنها قلصت رقعة تحركه في حدود البلد المجاور بالجنوب وهو المغرب.
تم تزويد الجاسوس دومنكو باديا من قبل حكومة بلده بأموال كافية وزيادة، لينفق بسخاء متسترا خلف قناع سائح أجنبي ورجل علوم تجريبية ومعارف نظرية، محملا بهدايا خاصة ونفيسة للمولى سليمان الذي استقبله بمراكش وانبهر بمداركه العلمية، وقدم نفسه للسلطان باسم علي باي، وأنه من أصول أسرة الخلفاء العباسيين، من وقتها خرج ليستطلع المغرب بلقب العباسي، مدعيا أنه وصل لتوه من جولة طويلة في بلاد الكفار الى أرض الاسلام ليختم حياته بها، هكذا تمكن من اقناع المولى سليمان بقبول تنازلات لصالح اسبانيا في الميدان التجاري، بل وغرر بقنصل كل من انجلترا وفرنسا في طنجة، كلاهما يبحث لبلده عن موطئ قدم بالمغرب . سنة 1864م بالضبط زار أحد المستكشفين الاسبان اسمه خواكين غاثيل مدينة تارودانت وسجل في يومياته السردية معلومات تاريخية جد مهمة عن الوضع والحالة الاجتماعية بتارودانت بعد منتصف القرن التاسع عشر يقول خواكين : ” المدينة تنقسم كسائر مدن القطر الى أحياء أربعة، والمنازل مبنية في الغالب من الطين الأحمر المخلوط بالتبن، وهذا الطراز من البناء يعرض المساكن للفيضانات ايام المطر … وعدد الدور 1300 والشوارع ضيقة في الغالب ومنعرجة لا يمكن عبورها ايام الأمطار، في المدينة خمسة عشر أو ستة عشر فندقا، يأوي اليه المسافرون للمبيت و لا يعطى فيها أكل، وفي تارودانت سجنان أحدهما في القصبة وفيها أيضا إثنان أو ثلاثة منابع للماء،- يقصد السواقي الكبرى- وفي المدينة اثنا عشر أو أربعة عشر فرنا – الأفران التقليدية لطهي الخبز باستخدم الحطب، عددها 14 حسب الراوي مما يبين أهمية الكثافة السكانية- وعدد كاف من رجال الصنائع والخرازون والحدادون أكثرهم عددا، وينيف عدد سكان تارودانت بما فيهم اليهود على 8300 شخص.إنتهى حسب أول إحصاء رسمي قامت به سلطة الاحتلال الفرنسي، بلغ عدد سكان تارودانت سنة 1926 / 8772 منهم 897 من اليهود، أي بزيادة 427 نسمة فقط خلال 98 سنة، مما يبين جليا اكتساح الأوبئة الفتاكة التي عرفتهما تارودانت كالتفوئيد typhus والطاعون la peste . كل زمن وتارودانت بألف خير
Aucun commentaire