اسا الزاك : عبق التاريخ، وعظمة الجغرافيا، وغنى الذاكرة في عمق الصحراء المغربية
في جنوب شرق مدينة كلميم، وعلى بعد 110 كيلو متر منها تستقبلك مدينة آسا التي تختفي جغرافيا وراء فج أمزلوك، متربعة بين جبال باني والواركزيز، لربما كان ذلك سببا في تسميتها بآسا المشتقة من صيغة التأنيث (تيسيت) وهي الأرض المنخفضة أو المنخفض الجبلي.
هناك بين عبق التاريخ، وعظمة الجغرافيا، وغنى الذاكرة، يلمح قصر آسا من بعيد في شموخ وكبرياء يطاول التاريخ، يتراءى وسط أسواره كتاج ذهبي عتيد، لا يبالي بالزمن، بل يوغل فيه قافلا ليروي لنا حكايات الأجداد، عظماء مروا من هنا، وهم في السفح يرقدون، بل إن أديم أرض الأمان وجبل النحاس باتت من أجسادهم، وكل بناء هو من لحم وعظام، لا يعوزه سوى لغة الكلام، وصمته ضجيج ملاحم وأعلام.
بهذه العبارات اختار أحد الباحثين في مركز دراسات الدكتوراه الجماليات وعلوم الإنسان سعيد عدي أن يصف عظمة قبائل أيت يوسى وغنى تاريخ منطقة وتطلع أبنائها إلى إستثمار الموروث الثقافي والحضاري للمنطقة في التنمية المحلية.
قصر أسا .. بنيان عتيق صامد
ويعتبر قصر أسا أحد أعرق المواقع الأثرية بإقليم أسا الزاك، بني قبل حوالي 10 قرون بجانب واحة تسمى “واحة قصر أسا”، فوق تلال مرتفعة يبلغ ارتفاعها 200 متر، تحده من جهة الشرق والشمال مدينة أسا ومن جهة الغرب سلسلة جبال باني ومن جهة الجنوب الحمادة، إلا أن هذا القصر الذي كان مزدهرا قديما، وشكل مركزا مهما على مشارف الصحراء المغربية أصبح الآن عبارة عن مباني مهدمة، وبيوت محطمة بسبب نزوح معظم الأهالي إلى مدينة أسا.
يجهل تاريخ بناء القصر، لكن الوثائق التي يحتفظ بها السكان تدل على أنه موغل في القدم، عمره يناهز آلاف السنين، وهو أقدم بناء أثري في غرب الصحراء.
في انتظار ما ستأتي به الحفريات في هذا الصدد، سوف نسلط الضوء على ما يبدو للعين جليا من شكل هندسي هلالي متناسق مع التلال التي بنيت فوقها مساكن متراصة البنيان يصل عدد غرف كل منزل إلى 30 غرفة موزعة على ثلاث طبقات في معظمها مخلفة تحتها أزقة ضيقة تسمى محليا بـ “تسواك” تفضي الى أزقة رئيسة يعرف كل منها بـ “الدرب” يفضي كل درب الى باب من الأبواب الستة الفرعية، وتسمى دروب القصر غالبا بأسماء العائلات العريقة التي تسكن كل درب، فنجد “درب باحسي” و”درب إهرسن”.
يبني سكان قصر آسا منازلهم بإعتماد مواد أولية بسيطة كالطين المدكوك الممزوج بالقش، ويتم تسقيفها بجذوع وسعف النخيل، أما الطلاء فيستخلص من الأحجار الصلصالية كما تستخلص بعض الأصبغة من الحجارة والنبات على سبيل الزينة والزركشة، في حين تبنى الدعامات والأسوار الخارجية بإعتماد الحجارة، هذه التركيبة جعلت من القصر بناء صامدا أمام عوامل التعرية، تتحمل أبنيته شدة الأمطار، وتوفر الدفء شتاء، وتخفض من شدة الحر صيفا كما يسمح موقعه بتسرب نسيم الواحة العليل الى فضاء القصر.
من المعالم الهامة جدا داخل القصر “دار الندوة” التي تعقد فيها القبيلة اجتماعاتها، ويعقد فيه الوجهاء (انفلاس) مجلس “آيت اربعين” للبث في كل القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقضائية المتعلقة بالسكان والمجال، يترأس الجلسات شيخ القبيلة “أمغار” الذي يستعين في (تزميم) الأحكام وقرارات المجلس برجل دين، فيما يتولى (انفلاس) تنفيذ الأحكام، ولهم حق الاستعانة بالعساكر (العسة).
تحتفظ الذاكرة الشعبية بشخصية الشيخ “الحسين بن مبارك أحشوش” وما كان له من حظوة داخل القصر إذ كان ذا نفوذ وجاه ومال وعبيد كما كان ذا حنكة وفراسة استطاع تدبير شؤون القصر وتوفير الأمن والنظام فكانت فترة ولايته من ألمع فترات تاريخ قصر آسا، لكن وفاته تزامنت مع وصول الفرنسيين، فانهار حكم الأمغار بالمنطقة، وبدأ معه انهيار مؤسسة آيت اربعين خصوصا وأن الفرنسيين كانوا جد حريصين على تنصيب زعامات موالية لمشروعهم التوسعي.
قبائل آيت يوسى .. قيم أصيلة يزحف عليها التمدن
ما أن تطأ قدميك حاضرة قبائل ايت يوسى تحسب أنك بين الأهل والأحباب وفي رحاب العائلة، فكلمة” يالله انتيو” في اشارة الى جلسة الشاي،لاتفارق من صادفتهم أو قصدتهم.
ومن المعلوم أن مشروب الشاي عند أهالي الصحراء، ليس مشروبا تقليديا فحسب، بل سمة من سمات الكرم الصحراوي.. وعلامة من علامات الحفاوة والاستقبال، فتقديم الشاي للضيوف بالصحراء لا يقل أهمية عن تقديم اللبن واللحم، بل إن بعض الضيوف يفضله على جميع أنواع المأكولات والمشروبات.
ولم تتجلى تمظهرات التمدن في زحف الإسمنت لوحده، بل في العادات والتقاليد، لذلك انتقدت فعاليات باسا الزاك ما أسمته “النسخ الباهتة التي يتم خلالها الاحتفاء بالموسم الديني لزاوية أسا بشكل فولكلوري يفرغ التظاهرة من حمولتها الدينية وعمقها التاريخي الذي يدفع الموسم إلى حامل لتراث شفوي يستحق أن يصنف كتراث إنساني بشكل يفرض بعث هذه التظاهرة بشكلها الأصيل والمتفرد”.
وعلى هامش الموسم السنوي لزاوية آسا الذي تستمر فعالياته إلى غاية الأحد 4 يناير الجاري، تم نصب خيام موضوعاتية تجسد مظاهر الحياة اليومية للبدو الرحل بالصحراء وعاداتهم وتقاليدهم المرتبطة على الخصوص بطقوس الضيافة والزواج والتعليم التقليدي (المحضرة) والطب الشعبي والزي المحلي والألعاب الشعبية والمطبخ الصحراوي ونسج الخيام والتحكيم العرفي ومختلف منتجات الصناعة التقليدية.
هيسبريس
تُوصف مدينة آسا تاريخياً بحاضرة الأولياء وملتقى الصالحين، وتعد معبراً تجارياً يربط الشمال بالجنوب، وشكل قصرها التاريخي وزاويتها العلمية العريقة مركز إشعاع روحي وديني في المنطقة طيلة القرون الماضية.
وظل هذا القصر التاريخي شامخاً يقاوم تقلبات الزمان، رغم هجرة سكانه إلى المدينة الجديدة، واستفادت أجزاءٌ منه من مشاريع الترميم والتأهيل، وأضحى اليوم أحد أهم المعالم التاريخية في الجنوب المغربي، وقبلة لعشاق السياحة الدينية والإيكولوجية.
شُيد القصر فوق هضبة صخرية مطلة على واحة آسا، في موقع كان ممراً هاماً للقوافل التجارية، وصلة وصل بين الشمال والجنوب.
قصر على مشارف درعة
صُممت بنايات القصر على شاكلة مباني درعة بالطين والأحجار والمواد المحلية، وأٌحيط بأسوار لحمايته من الأخطار الخارجية، وتتخلله أكثر من ستة أبراج للمراقبة وعدة بوابات، ويضم مساجد وزوايا وسوقاً وساحات ومخازن؛ في حين خصص للمقبرة مساحة كبيرة، تضم أضرحة لعلماء وأولياء عاشواْ من هذه الحاضرة الدينية.
يقول سويلم بوغدا، الباحث في تاريخ الجنوب المغربي، في تصريح لهسبريس، إن "هذه المعلمة التاريخية تنقسم إلى قسمين: قصر بني نكيت وآخر لبني مليل، وزاد: "سكنت عشائر عدة هذا القصر، وتتكون بدورها من أفخاذ كثيرة".
ويُرجح الباحث في تاريخ المنطقة أن القصر بني قبل المرحلة المرابطية، مشيراً إلى أن "معماره لديه خصوصيات محلية تستجيب للإكراهات المناخية بالمنطقة، إضافة إلى حاجات دفاعية من خلال الأسوار والأبراج".
وأضاف المتحدث أن "العشرات من المراجع التاريخية المغربية والأجنبية تناولت هذا القصر التاريخي المتميز بنظام اجتماعي معقد كان يعتمد على نظام العرف والجماعة".
وطالب الباحث في التاريخ بإيلاء المزيد من الاهتمام العلمي والتدقيق في المعطيات التاريخية المتعلقة بهذه المعلمة، من خلال جمع الوثائق التاريخية الخاصة بها.
من جهته يرى محمد بوزنكاض، الباحث في التاريخ بجامعة ابن زهر بأكادير، أن "قصر آسا خضع لترميم جزئي شمل السور والأبراج، وهو مجهود محمود بالرغم مما شابه من نواقص ناتجة عن عدم استناد الفاعلين في الترميم إلى خلفية علمية"، مضيفا: "صيانة هذا التراث تطرح علينا كفاعلين تحدياً يتمثل في إعادة الاستقرار للقصر الذي تعرض للإخلاء وإدماجه في الدورة التنموية للإقليم"، ولفت إلى أن "مكانة القصر والزاوية تعززت بالاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في شكل موسم تجاري وديني بحمولة اجتماعية استثنائية؛ فخلق هذا الحدث دينامية تجارية استقطبت التجار من حواضر المغرب الأقصى وإفريقيا الغربية".
السياحة الإيكولوجية
محمد أنزيض، فاعل جمعوي وصاحب مشروع سياحي داخل القصر التاريخي لأسا، يرى في حديث لهبسريس أن "السكان متحمسون لمشاريع سياحية مدرة للدخل داخل هذه البناية التاريخية المهجورة"، واشتكى من "إهمال هذه المشاريع من الجهات المعنية"، لافتاً إلى أن "أصحاب دور الضيافة يطالبون المجالس المنتخبة والجهات المعنية بالسياحة في الجهة بالتعاون ودعم هذه المشاريع"، وزاد: "لدينا مؤهلات مهمة وإرث تاريخي وديني عريق لم يتم استثماره بعد بالشكل الأنسب".
وطالب الفاعل الجمعوي الجهات المعنية بالعمل على تسويق مؤهلات آسا السياحية لتكون ضمن الوجهات المبرمجة لدى وكالات الأسفار، والجهات المعنية بالسياحة في الجهة، وعبر عن تفاؤله بالمستقبل "بعد إدراج موسم آسا الديني ضمن التراث الوطني اللامادي"، وفق تعبيره.
واستفاد قصر آسا التاريخي من برامج ترميم انطلقت منذ فبراير 2006، قادتها المهندسة المتخصصة سليمة الناجي، ذات الباع الطويل في ترميم البنايات التاريخية بالجنوب المغربي، بشراكة مع وكالة تنمية الأقاليم الجنوبية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وارتبطت مدينة آسا وقصرها التاريخي بموسم ديني ضارب في القدم، كان يقام ولازال في حاضرة الزاوية العلمية، وتلتقي فيه القبائل من الشمال والجنوب في ذكرى المولد النبوي، وتقام فيه أسواق تجارية ويلتقي شيوخ التصوف وجمهور المريدين والزوار.
يقول سويلم بوغدا، الباحث في تاريخ الجنوب، إن "هذا الموسم كان يعتبر ملتقى سنوياً لأقطاب التصوف من المغرب والسودان الغربي والمشرق العربي"، موضحا أن هذا التراث التاريخي يحتاج إلى المزيد من البحث والتوثيق.
من جهته يرى الباحث محمد بوزنكاض أن "موسم آسا يتسم بحمولة مركبة دينية وتجارية، ما جعله امتدادا لقصر آسا وزاويتها"، وزاد: "وجد الشيخ المؤسس للزاوية في قصر آسا وواحتها إطاراً مناسباً لتأسيس رباطه بداية القرن الرابع عشر الميلادي"، لافتاً إلى أن هذا الموسم "حقق التكامل بين المدينة والبادية في سياق الصحراء الموسوم بالندرة، حيث درج الباحثون على الربط بين المواسم والزوايا في إطار الحديث عن اقتصاد الزاوية".
تراث لا مادي وطني
في المقابل قال متحدث من المجلس الإقليمي لأسا الزاك، في تصريح لهسبريس، إن "تأهيل قصر آسا التاريخي يدخل ضمن اهتمامات المجلس من خلال محور تنمية العرض السياحي المندرج ضمن البرنامج التنموي للإقليم الذي تمت المصادقة عليه خلال دورة شهر شتنبر الماضي".
وأضاف المتحدث أن "البرنامج يشمل أيضا تثمين التراث المحلي، من قصور وزوايا وقصبات، إضافة إلى السياحة الموضوعاتية والإيكولوجية"، مشيراً إلى أن "مجهودات المجلس الإقليمي وكل شركائه تكللت هذه السنة بتصنيف ملكى الموسم الديني لأسا (ملكى الصالحين) ضمن التراث اللامادي الوطني، في أفق إدراجه ضمن التراث اللامادي العالمي لمنظمة اليونسكو".
من جهته يرى رئيس المجلس الجماعي لآسا في تصريح لهسبريس أن "قصر آسا يوجد حالياً ضمن الاهتمامات الكبيرة للمجلس، خصوصاً أن موسم آسا صنف مؤخراً ضمن التراث اللامادي الوطني"، وأضاف أن "المجلس يشتغل على برامج مستقبلية لتشجيع السياحة واستثمار المؤهلات التاريخية للإقليم، منها القصر والواحات في إطار السياحة الإيكولوجية".
Aucun commentaire